Search This Blog

Wednesday, February 17, 2016

متى تتحول معرفتك الى غشاوة

متى تتحول معرفتك إلى غشاوة ؟
فهد عامر الأحمدي
هل سبق وطرقت لحناً جميلًا على أي طاولة؟

...هل تتخيل كم شخصا سيعرف اللحن المميز "للسلام الملكي" أو "طلع البدر علينا" لو طرقته مجددا؟

ستقول غالبا : جميع الناس أو على الأقل 90% منهم..

ولكن الحقيقة هي أن 2,5% من الناس فقط سيتعرفون على لحن مشهور كهذا..

والفرق الشاسع بين النسبتين هو ماجعل جامعة ستانفورد تمنح إليزابيث نيوتن درجة الدكتوراة في علم النفس.. ففي عام 1990 قامت بتجربة قسمت فيها الطلاب الى فريقين رئيسيين (طارقون، ومستمعون)..

طلبت من المجموعة الأولى قرع لحن يعرفه الجميع (مثل أغنية عيد الميلاد) ومن المستمعين تخمين اللحن بسرعة..

وقبل أن يبدأ المؤدي بطرق اللحن كانت تسأله: كم تتوقع نسبة من سيعرفون لحنك فورا؟ فوضع معظمهم نسبا عالية جدا وصلت الى 100% (فمن لا يعرف أغنية سنة حلوة يا جميل)!؟

المفاجأة أن "المستمعين" لم يميزوا سوى 3 ألحان فقط من بين 120 أغنية مشهورة (وهي نسبة تعادل 2,5% فقط)..

لو حدث ذلك بينك وبين صديقك لقلت له "ماهذا الغباء؟" "أليس الأمر واضحا؟" "هل أنت أصم"..

ولكن الحقيقة هي أن السبب لا يعود الى غباء الناس أو إصابتهم بالصمم بل إلى إصابتك أنت بما يعرف ديناميكية المعرفة.. فأنت ببساطة تسمع اللحن يطرق في رأسك بشكل واضح (بل وسمعته ثلاث مرات منذ بدأت بقراءة هذا المقال) وبالتالي تعتقد أن جميع الناس تشترك معك في سماع ذلك..

غير أن الطرف الآخر لا يمكنه ببساطه قراءة أفكارك أو سماع اللحن بالطريقة العصبية التي تسمعها أنت!

وهنا يمكن القول إن معرفتك المسبقة أصبحت عائقا يمنعك من فهم الآخرين أو إمكانية استنتاجهم احتمالات أخرى (فتتهمهم بالجهل أو بطء الفهم)..

يحدث ذلك حين تحاول (خلال دقائق) تعليم شخص آخر أمرا تعلمته طوال سنوات (كلعب البلوت أو الشطرنج أو حتى قيادة السيارة).. فالأمور بالنسبة لك بسيطة وواضحة ولا تحتاج لذكاء كبير؛ ولكنك تنسى أنك لم تتقنها وتصبح بهذه المهارة إلا بعد سنوات من الممارسة والتمرين لم يمر بهما الطرف الآخر (فكيف تتهمه بالغباء وبطء الفهم!؟)

والأسوأ من عدم ادراكنا لهذه الحقيقة هو تضخمها بمرور العمر لدرجة لا نرى غير ما أصبحنا نجيد عمله بإتقان (فنتهم الجيل الجديد بالجهل أو النسيان)..

حين كنت أعمل في ثانوية للبنين أتانا معلم مكتبة تخرج حديثا، ولأن مدير المدرسة (الذي أوشك على التقاعد) يحمل نفس التخصص بدأ يسأله أسئلة دقيقة عجز المعلم الجديد عن الإجابة عنها.. وحين قام هذا الأخير التفت المدير نحوي وقال "شايف مستوى المعلمين هذه الأيام".. لم أشاطره الرأي وأعدت الأمر إلى فارق الخبرة بين الرجلين وحقيقة أن الأول يعزف لحنا يتوقع من الثاني تخمينه بنسبة 100%!

.. على أي حال الألحان والبلوت (والمعلم الجديد) مجرد نماذج لمعلومات، وخبرات نعرفها مسبقا ولكننا للأسف نتوقع من الآخرين فهمها بسرعة أو من المجتمع تطبيقها فور علمه بها (وبنسبة 100%).. وهذا "التوقع" هو الذي يجعل المديرين والآباء والأساتذة والوعاظ في حالة إحباط وغضب دائم بما في ذلك ربات البيوت مع خادماتهن..

.. وما أخشاه أنك تفعل ذلك أيضا مع أبنائك وموظفيك والناس من حولك .. أخشى أن مفاهيمك وخبراتك (الواضحة جيدا في دماغك) تحولت إلى عقبة تمنعك أنت من استيعاب مفاهيم جديدة وخبرات بديلة قد يملكونها هم!

الحل هو أن تكون أكثر حلما، وتفتحا، وتدرك تفاقم هذه الحالة كلما تقدمت في السن حتى (لا يعلم بعد علم شيئا).. أن تتقبل خلافاتك مع الأجيال الجديدة ليس على أساس أنهم أقل فهما ونضجا بل على أساس أنهم يملكون مفاهيم وخبرات جديدة لأن تعرفها أنت..

ومهما بلغت حيرتك أمام الأجيال الجديدة لا تتخذ من نفسك مقياسا (أو تحكم على الناس أساسا) وإِذا قال الرَّجل هلَك النَّاس فهُو أَهلَكُهمْ..


No comments:

Post a Comment